تم تدشين موقع فيكشنز رسمياً يوم الثلاثاء 5 مايو 2009م

الأعضاء

الثلاثاء، ٩ جمادى الآخرة ١٤٣٠ هـ

أرض الميّت جديد سندباد للنشر

ترشيح الرواية لجائزة مسابقة (هاي فيستال)
عن مؤسسة سندباد للنشر والاعلام بالقاهرة 2009 صدرت رواية (أرض الميت) للروائي السودانى هشام آدم، في 140 صفحة من القطع المتوسط، وتصميم الغلاف الفنان التشكيلي السوداني: حسن عبد الرحمن حميدتي، وعلى الغلاف الأخير نقرأ كلمة الناشر:

في أرض الميت تتقاسم العقارب والأفاعي الأرض مع بني البشر، فتهيم العقارب والأفاعي في الأرض مساءً تحت الصخور، وأوراق الأشجار المنكفئة على وجوهها، وخلف كل شيء ساكن؛ بينما تنتشر فيها النسوة صباحاً لتهذيب الحشائش في المزارع القريبة، وتقسيم أحواض الزراعة، وعيادات المرضى، والولادت المستعجلة، والرجال لقيا المزارع والعزاءات وحفر القبور وإعداد الخمر التقليدية، والشباب لجلب الدقيق على ظهور الحمير ومغازلات الفتيات والسوق، والأطفال للعب السكج بكج، وشليل وتصنيع سيارات من علب الصفيح القديمة، والعقارب غير مسئولة عمن يخرق هذا الاتفاق؛ فتلدغ الذين يخرجون ليلاً لجنس طارئ أو بحثاً عن مفقود أو قضاء حاجة.

ورغم أن أرض الميّت قرية صغيرة إلا أنها تعج بالقصص الخرافية والأساطير عن الجن والعفاريت والضباع، ولا تزال الأجيال تتناقل بفخر غير مسبوق أسطورة أسلافهم الذين روضوا الضباع وامتطوها عوضاً عن الحمير والبغال. الرجال في أرض الميّت يصنعون الخمر، ويزرعون الخشخاش، ويرقصون الأولّيّ والهمبيق ويتفاخرون بالحمير، بينما تقوم النساء بالأشياء الأكثر أهمية، فهن يجلبن البرسيم، وينظفن المزارع والبيوت ويصنعن التركين والأبري، بينما تهتم التماسيح والعقارب بتربية الأبناء، ولهذا وغيره فإنها رواية جديرة بالقراءة، جديرة بالدرس والتحليل لمّا تثيرة من قضايا شائكة.

** ونظرا لقيمة الرواية التى ترصد سيرة أهل النوبة أثناء تهجيرهم مع قرار الرئيس جمال عبد الناصر بناء السد العالي، فقد قرر الروائي خليل الجيزاوى مدير النشر بمؤسسة سندباد للنشر ترشيح رواية (أرض الميت) للمشاركة في مسابقة (مشروع بيروت 39) الذي تقيمه مؤسسة هاي فيستال بلندن الذي يأتي في إطار الاحتفالية السنوية (بيروت عاصمة عالمية للكتاب).

وقد أسندت للروائي علاء الأسوانى مهمة رئيس لجنة تحكيم المسابقة وسكرتير المشروع الروائي العراقي صموئيل شمعون، ومديرته كريستينا فونتيس لاروش، وأعضاء لجنة التحكيم هم: عبده وازن، وعلوية صبح، وسيف الرحبي.

الثلاثاء، ١٠ جمادى الأولى ١٤٣٠ هـ

رواية العطر الفرنسي - أمير تاج السر


الفصل الأول

حين يأتي خبر ما
لم يكن خبراً عادياً، ذلك الذي التقطه (علي جرجار) مصادفة، وأسرع به راكضاً إلى حي (غائب) الشعبي في أطراف المدينة حيث يعيش. وبالرغم من أن الخبر في حد ذاته كان مقتضباً وغامضاً وبلا علامات إرشادية، إلا أن خيالات جرجار كانت حاضرة دائماً، ومستعدة لتطويره في أي وقت، إلى خبر ذي جدوى وتأثير.

· ستأتي الفرنسية (كاتيا كادويلي) في الأيام القادمة، للإقامة معكم في الحي فترة من الوقت، كجزء من دراسة عالمية .. استضيفوها في أي مكان بينكم، وعيشوا حياتكم كما هي .

هذا بالضبط ما ذكره المسئول الحكومي (مبروك)، حين التقى (علي جرجار) في مبنى محافظة المدينة التي اعتاد على زيارتها من حين لآخر بهدف وبلا هدف. يعرفه المسئول منذ أكثر من أربعين عاماً، حين تواجها مرة في مباراة كرة قدم خشنة، جرت في زقاق ضحل، وانكسرت فيها قدم الحكومي آنذاك. ناداه وهو يوشك أن يعد (سريرة) بائعة الشاي المرابطة أمام المحافظة، بالزواج كما وعد العشرات من قبلها.

· يا جرجار .. يا علي ..

توقف بوعده للبائعة عند قيمة المهر، وعدد الجرامات في الخاتم الذي سترتديه يوم الزفاف، وتبع المسئول الحكومي إلى داخل المبنى.

· وما هي تلك الدراسة العالمية بالضبط ؟ ولماذا حي غائب بالذات دون أحياء الكرة الأرضية؟
· لا ندري شيئا في الحقيقة .. هذا ما وصلنا حتى الآن.
· ومتى ستصل تلك الفرنسية ؟
· أيضا لا ندري .. ربما في الأيام أو الأسابيع المقبلة.
· وما هو المطلوب من سكان الحي؟
· لا شيء محدد..عيشوا حياتكم كما أخبرتك، فقط انتبهوا إن بينكم غريب .

انصرف المسئول الحكومي إلى أشغاله، تاركاً علي جرجار حائراً .. في أثناء سكناه الطويلة في حي (غائب) الذي حاولت السلطة مراراً أن تسميه حي النور، أو حي (زهر الروضة) أو حتى حي (حاضر)، وأخفقت .. استضافوا مئات الغرباء، بعضهم جاء ضيفاً على أحد يعرفه أو يمت إليه بصلة القرابة، بعضهم اختفاء من جرم ارتكب في مكان بعيد، بعضهم طمعاً في أرض يمتلكها بوضع اليد، أو امرأة يشتهيها، وبعضهم لا لشيء أكثر من كونهم غرباء يستضيفهم حي فقير. ومها كانت تلك الأفواج الغريبة ومهما كثرت أعدادها وتشعبت، إلا أنها كانت كلها من لحم الوطن، قد تكون من الشمال أو الجنوب، أو الوسط. لكنها في النهاية تتبع لذلك الجسد الوطني العريض. ويستطيع حي (غائب) أن يكلمها وتكلمه في أي لحظة. لكن الآن تأتي فرنسية من مكان بعيد، وثمة دراسة عالمية غير معروف أصلها وفصلها. وعيشوا حياتكم كما هي ، فقط انتبهوا.. بالتأكيد لن يستوعب سكان الحي كل تلك الغوامض حين ينقلها لهم كما سمعها، لكنه سيبهرها، ويملحها، ويطعمها تفاصيل من عنده قبل أن يلقي بها في أذن المايكروفون، وهو الاسم الذي كان يطلقه على (حكيم النبوي)، مدرس التاريخ السابق، و أحد سكان الحي المهمين، والذي بدوره قد يضيف إليها بهاراً آخر قبل أن يبثها في الحي كما اعتاد في كل مرة يأتي فيها خبر جديد. خرج (جرجار) من باب المحافظة مسرعاً لدرجة أنه نسي أن يعود إلى سريرة بائعة الشاي، يكمل معها ترتيبات الزواج المزعوم، وأن يشتم ماسح أحذية صبياً هزأ بحذائه المتسخ أمام الناس .

كان (علي جرجار) واحداً من أكثر سكان (حي غائب) إثارة للجدل، يأتي في المرتبة الثالثة بعد (الدقيل) الذي عاد إلى ريفه البعيد في الشمال، بعد أن عاش في الحي، وعربد في المدينة لثمانية وستين عاماً، وركشة بائع الثلج في موسم الصيف، الذي استولى مرة على لقب ملوكي يخص واحداً من مواطني إحدى دول الجوار، وظل يستخدمه في المدينة زهاء الثلاثة أعوام لدى النساء والمسئولين، وحتى لدى الخفراء الذين يحرسون البوابات، إلى أن سمع به صاحب اللقب الأصلي، فجاء ليعريه في المدينة كلها، ومن ثم ليخسر خمس سنوات من عمره في السجن .

كان على جرجار طويلاً، ممتلئاً، قليل شعر الرأس وبلا شاربين، ولد ونشأ في الحي نفسه، وعمل مراقباً لصيانة القاطرات في السكة الحديد إلى أن انهارت تلك الأخيرة بسبب الإهمال ونسيان الحكومات المتعاقبة لأمرها، وكان يباهي دائماً بمقاومته لمرض الملاريا وحمى التيفود والنزلات المعوية الموسمية، التي تصيب حتى زعماء البلاد، وبقائه عازباً بلا زواج، لكن عريساً دائماً لكل الفتيات منذ شبابه المبكر وحتى فتيات يومه الحاضر، وانتمائه إلى حزب (وطنك الكبير) الذي كان في الواقع حزباً مغموراً جداً لا يضم في عضويته سوى ثلاثة أشخاص، هم مؤسسه الرحالة المقعد (حاكم عذابو)، وعلي جرجار، وواحدة قيل أن اسمها سعاد سعد، لم يرها أو يعرف عنها أحد شيئاً.

كان يعشق نسج الحيل، وتخليد ذكرى الموتى المهمين في نظره، بفرضهم أسماء لمواليد الحي وشوارعه المغبرة، وابتدأ من سن مبكرة في تدريب مثانته على عدم حبس التبول، ورئتيه على عدم السعال أبداً، و ذاكرته على عدم الخرف حتى لو بلغ سنه المائة. وكانت أعظم أعماله على الإطلاق، تلك الصيحة التي تنادي بحرية التخيل لدى الناس، والتي أطلقها من حي غائب ذات مساء، لتصل فيما بعد إلى كل أقاليم البلاد، ويطلق عليها الباحثون في السياسة والتاريخ اسم (صيحة جرجار)، لكن ذلك لم يعد عليه بمال أو جاه .

اختفى علي جرجار في لجة الحافلة المتجهة إلى الحي البعيد مارة بأحياء أخرى في طريقها، كان في داخلها الكثيرون ممن يعرفهم وممن لا يعرفهم، لكنه كان في الواقع بعيداً عن جو الحافلة، غارقاً في نصه الجديد، نص الفرنسية ذات المجيء الغامض التي التقط خبرها للتو، كان يمحي في ذهنه ويضيف، يعدل ويلغي التعديل. أضاف باريس مرة كمدينة ذات جاذبية وخصر دقيق، ثم عاد ومحاها مخافة أن يظنها البعض امرأة فيشتهونها، جعل (كاتيا كادويلي) الفرنسية فتاة في العشرين من عمرها، ثم استغرب كيف يجعل فتاة في العشرين من عمرها تأتي لتقيم في تلك الفوضى. وضع حول عنقها عقداً من الماس، في شقوق أذنيها أقراطاً مذهبة، ثم خلع زينتها خوفاً من اللصوص الذين قد يسرقون حليها، في حقائبها بعض الصندل، ودهن العود وعباءة سوداء ذات حواف، ثم عاد و تذكر عطراً كرنفالياً اسمه (موج)، وقمصاناً بلا أكمام، وتنانير حتى الركبتين وبناطيل للجينز رأى السائحات الأوروبيات يرتدينها في وسط المدينة. أسكنها بيوتاً عدة في الحي، وسحبها منها بحجة فجاجة الجيران وتطفلهم على خصوصياتها، وكم من مرة أجلسها على كرسي أو سرير من الحبال، ثم أوقفها على قدميها مخافة أن تتسخ ثيابها. وحين اقتربت الحافلة التي يستقلها من حي (غائب)، كان ثمة سيناريو مقبول بالنسبة إليه قد كتب:

"ستزورنا في القريب العاجل، النجمة الفرنسية كاتيا كادويلي، لتجرب الحياة الشعبية وسطنا، وذلك بخصوص مشروع عالمي كبير يخص الدعاية والإعلان، تقوم بالمشاركة فيه، ثم تعود بعد ذلك إلى بلادها، وتذكرنا بالخير."

كانت كلمة "تذكرنا بالخير" قد جاءت بعد نحت شديد للذهن وليست مصادفة. إنها تعني أشياء عديدة هامة مثل أن تجعلنا مشاهير في العالم كله بتوثيقنا في شريط تسجيلي. ترسل لنا المال اللازم لتطوير الحي ودفن بالوعاته وحفره، تعتني بكلابنا وقططنا الضالة، تطلب بعضنا للهجرة والإقامة معها في باريس، وربما تحب أحدنا بجنون وتعرض عليه الزواج. كانت (تحب أحدنا بجنون و تعرض عليه الزواج) بالذات تخصه هو شخصياً من دون سائر سكان الحي، فقد كان علي جرجار برغم وصوله لسن تسمح لتنقو بائع الآيس كريم، وعمر الحلاق، وصليحة الممرضة في المستشفى، أن ينادونه يا جدي، ما يزال مقتنعاً بأنه صاحب جاذبية لا تقاوم، ويمكن أن يكون العريس المناسب حتى لرقية الطالبة في الصف الثالث الابتدائي. وبنات صفها كلهن .

كان بيته في وسط الحي تقريباً، بيت كسائر البيوت نصفه من طين ونصفه من خشب مشقق، الذين أنشأوا الحي فيما مضى، أنشأوه هكذا. كانوا واعين بسطوة الفقر على حياتهم، ومهووسين بغرسه في النطف حتى لا يموت أبداً ، حتى اسم ( غائب ) الذي يعني عدم الوجود أو الانمحاء ، لم يأت من فراغ أو سذاجة ، إنه الاسم الذي اتفق عليه الجميع وهم يضعون اللبنات الأولى في بناء الحي ، وحين جاءت أجيال بعد ذلك ، طرقت التعليم ، أو عرفت سكة السفر إلى بلاد الخليج العربي وأوروبا وعادت، لم تحاول أن ترمم حائطاً مشقوقاً ، أو تدفن حفرة يمكن أن تبتلع أحداً، أو حتى لتمد يد المساعدة لطريق معوج ، ليستقيم . عادت لتعيش الحياة كما عرفتها ، ونشأت عليها . فتح باب بيته فأحدث ذلك الصرير المزعج الذي كان أيضاً جزءا من ثقافة أبواب البيوت في الحي .. لا باب ينفتح بلا صرير ، والباب الذي ينفتح هادئاً وسلساً ، لا يحترمه أحد. ولا يطرق حتى في مناسبات الأعياد التي تعد مواسماً تطرق فيها الأبواب كلها.كانت تلك ساعته اليومية في تدريب ذهنه على عدم الخرف ليصل إلى سن المائة بلا مشاكل ،لتدريب رئتيه على عدم السعال أو الانهزام أمام الأنفلونزا، ومثانته على عدم حبس التبول الذي لن ينجو منه إذا ماترك المثانة بلا تدريب ، ألغى كل ذلك وخرج مرة أخرى من البيت..سيذهب إلى حكيم المايكرفون ويخبره بذلك الخبر الغريب .

كانت السادسة صباحاً في الواقع ، ساعة غريبة .. تلك التي اختارها حكيم النبوي ، لتكون وقتاً لاجتماعات مكثفة ستجرى في بيته باستمرار، بعد أن انتهك جرجار قيلولته المقدسة ،وأخبره بخبر الفرنسية القادمة للسكنى في حي ( غائب ) .إنها الساعة التي حدثت فيها ثورات عظيمة، وانقلابات عسكرية طائشة أيضاً.الساعة التي تصفو فيها الأذهان حتى من جريرة التذكر ..الساعة التي يشاهد فيها ( موسى خاطر ) ، الذي كان يعمل في إحدى الدوائر الأمنية ويتخذ الحي مادة لتقاريره اليومية،راكضاً في الأزقة والحفر ، في رياضة عنيفة تلهيه عن قراءة النصوص المكتوبة والمسموعة ، والمرسومة على الوجوه.والساعة التي انتحر فيها الرومانسي الرقيق ( طه أيوب) ، منذ أكثر من سبع سنوات حين اكتشف فجأة إن عرق الأنثى لا يختلف أبداً عن عرق الذكر في جميع مراحل تكوينه وتصببه على الأجساد .في ذهن النبوي خطط وليدة قد تنمو إلى خطط كبيرة ، وقد تموت لتأتي غيرها ، وفي ذهنه الآن خمسة أشخاص انتقاهم بعناية ليقاسمهم تلك الخطط .هو باعتباره الرئيس غير الرسمي للحي ، لأن الأحياء كانت بلا رؤساء رسميين،باعتباره الوحيد القادر على نظم قصائد الشعر ذات المدح والهجاء ، والأهم من ذلك تاريخه الطويل في الثرثرة حين كان طفلاً ثرثاراً ، ومراهقاً يكتب رسائل الحب الثرثارة ، ومعلماً لمادة التاريخ ذات الثرثرة في المدارس الابتدائية .علي جرجار باعتباره ناقل الخبر ، وباعتباره مواطناً نشطاً في كل مرحلة من مراحل تأرجح الحي،وحلقة للوصل يمكنها أن تضفر خيوطاً عديدة قد تترنح في وسطها سيرة الفرنسية قبل أن تحط بسلام في حي ( غائب ) .( منعم شمعة ) تاجر الشنطة المسافر دائماً أو العائد من سفر ، باعتباره واحداً من وجهاء الحي ، وإن محله التجاري قد يضم عطراً سلساً أو تمثالاً من البرونز يمكن أن يقدم هدية للضيفة في احتفال قد يقيمه الحي يوما ما . (حليمة المرضعة ) قارئة الكف والمصائر، ما أهم تلك الحليمة ، وما أهم قراءتها المستقبلية لكفوف أهل الحي في وجود كل تلك الغوامض ..تعيس الذي كان اسمه شاكر ، واكتسب ذلك الاسم لأنه الوحيد الذي لم يذق ماء ( زمزم ) ، حين أرسله إلى الحي أحد المحسنين واصطف الناس طوابير شرهة ومجنونة لتذوقه أو الاغتسال به ..كان تعيس بالنسبة للنبوي ذا فائدة عظيمة، بالرغم من أنه لم يستطع تحديد تلك الفائدة إلى الآن ، وأخيراً ( أيمن داؤود ) طالب الثانوي الذي قطع شوطاً كبيراً في دروب التكنولوجيا ، وعن طريق شبكة ( الإنترنت ) التي يدخلها باستمرار في مقهى ( كريزي كافيه ) في السوق الكبير ، يمكنه أن يقدم الكثير في ذلك الشأن ..قد يقترح البعض اسم سلافة الجميلة جداً ، لأنها جميلة جداً ، لكن لا محل لجمالها هنا.. قد يصرخ البعض أين ( فرفور ) المغني ، صاحب أوبريت ( العمامة ) ، الذي يعمل على تلحينه منذ أكثر من أربعين عاماً ولم يكتمل حتى الآن ؟ ، قد يحاول جرجار إضافة واحدة من حبيباته الهامشيات ليراقب نظراتها وابتساماتها أثناء الاجتماعات ، قد يصرخ أحدهم مطالباً بإشراك رجل دين ذي علم بالحلال والحرام والأمور المشتبهات ليدلي بفتواه إذا اقتضى الأمر ، وقد يلغي موسى خاطر الأمني رياضته العنيفة ذات صباح ، يخترق الاجتماعات ، وربما يترأسها بلا استئذان.. لكن النبوي لن يلتفت إلى شيء .. ولن يضيف أو يحذف اسماً . كانت لجنة الستة التي كونها ، ومررها ببرود من طرف لسانه لعلي جرجار ، في رأيه ، هي أفضل لجنة تكون لمناقشة أمر ما منذ استقلال البلاد .

التفت إلى علي جرجار ، وفي صوت فخم يكاد يكون الشيء الوحيد المتبقي من فخامته القديمة بعد أن أقعده مرض الروماتيزم ، قال:

· لقاؤنا غداً في السادسة صباحاً لمناقشة هذا الموضوع ، ووضع خطط بشأنه ..لا تنس أن تحضر شاياً وزنجبيلاً .. وبعض البن .لا يوجد اجتماع بلا صداع .والآن دعني أكمل قيلولتي.

ثم نادى أحد ولديه ، زوده بأسماء الأربعة المطلوبين لاجتماع الغد باعتباره هو وعلي جرجار حاضرين ، أمره أن يطوف عليهم واحدا واحداً، وأن لا ينس أن يغرس في كل حفرة تطأها قدماه ، خبر الفرنسية القادمة إلى حي غائب المكتظ بآذان شرهة لامتصاص الأخبار .

خرج ( علي جرجار ) من عند النبوي متجهماً ، لم يكن واثقاً من نزاهة النبوي حين تلقف الخبر ، وحين كون لجنة غريبة لمتابعة تداعياته ، وحين لم يكرمه حتى بكوب من الماء ، وبالرغم من أنه جاء راكضا لإخباره كما تعود في كل مرة يصطاد فيها خبراً أثناء تجواله في المدينة، إلا أنه أحس هذه المرة بشيء من عدم الارتياح ، اتجه إلى بيته مجدداً ، فتح الباب ذا الصرير ، واستلقى على كنبة قديمة كانت جزءاً مهما من إرث البيت..أرخى مثانته وقبضها عشرين مرة ، استنشق ثمانين نفساً عميقاً وأخرجها من دون أن يسعل ، عاد بذاكرته أربعين عاماً إلى الوراء ، تذكر ثوباً أحمر اللون ممزقاً في وسطه ، كانت ترتديه امرأة ، وطقماً للشاي من الخزف كان راكداً في رف ما ، وزجاجة من عطر ( الريفدور)،سقطت على الأرض وانكسرت ..وزهرة من زهور ( زنبق الصحارى)، نبتت بقامة طفل ثم يبست .. تذكر أمه حين كانت تبكي بمناسبة وبلا مناسبة ، وأباه حين كان يعشق نوم القيلولة حتى مات في إحدى القيلولات ، وجارة اسمها سعيدة لم تكن أبداً سعيدة .أحس بمثانته قوية جداً ، ورئتيه سلستين في التنفس،وذهنه قد صفي وعاد شاباً، نهض واقفاً ، خرج مرة أخرى إلى الطريق وخبر ( كاتيا ) القادمة من بعيد، لا يفارق تفكيره ، ولا يدري لماذا لا يفارق تفكيره .


أمير تاج السر
روائي من السودان يقيم في الامارات

amirelsir@yahoo.com

بدء الترشيحات للدورة الثالثة لجائزة بوكر للرواية العربية


تعلن إدارة "الجائزة العالمية للرواية العربية" أو "البوكر العربية" بدء قبول الترشيحات للدورة الثالثة من الجائزة 2009/ 2010م. يمكن كل ناشر أن يرشّح ثلاث روايات صدرت لديه بين آب/ أغسطس 2008 وتموز/ يوليو 2009. وينبغي له إرسال 7 نسخ من كلّ رواية مرشّحة، مع استمارات الترشيح، الى العنوان البريدي الآتي: جمانة حداد - الجائزة العالمية للرواية العربية - ص. ب: 280 – جونية – لبنان. سيكون كذلك للجنة التحكيم الحق، إذا ما رأت ذلك ضرورياً، في "استدعاء" ترشيح أعمال لم يتم ترشيحها من جانب دور النشر. علماً أن أبواب الترشيح للدورة الثانية تُقفل في 31 تموز/ يوليو 2009م. يذكر أنه يمكن المؤلف الذي فاز بالجائزة أو وصل الى اللائحة النهائية عن عمل روائي معيّن في الدورة السابقة، أن يترشّح مجدداً في السنوات التالية عن أعمال أخرى. ولكن لا تُقبل ايّ أعمال تمّ ترشيحها في الدورة الأولى. يذكر أيضاً أن الجائزة العالمية للرواية العربية، التي تُدار بالشراكة مع جائزة "بوكر" البريطانية، وبدعم من "مؤسسة الإمارات"، هي خاصة بجنس الرواية الأدبي: تالياً لا تتأهل لها المجموعات القصصية ولا الشعرية. يمكن الاطلاع على اللائحة الكاملة للشروط، والحصول على استمارة الترشيح، من خلال موقع الجائزة على شبكة الانترنت، أو من خلال الاتصال بالمديرة الإدارية للجائزة جمانة حداد.

مقاطع من رواية السيدة الأولى


اختفت خلف صخرة كبيرة على شكل قبعة ساحر، تتخذها مكاناً لدفن الأصداف التي تقذفها أمواج الكاريبي، عندما صادفت طائراً ضخماً برأس رجل بشع ذي شعر كثيف، بينما غطى الريش بقية جسده. تقدم الطائر نحو الصخرة الكبيرة، وبدأ ينبش الرمل بمنقاره الذي على شكل خطّاف، واختطف الأصداف المدفونة، ثم فرد جناحيه المهولين، وارتفع كطائرة عمودية، واختفى بين غيوم حمراء ابتلعته؛ ثم تلاشت بعدها تماماً.

شعرت بخوف شديد، وضغطت على صدرها بقوة. حاولت أن توقف دقات قلبها المتسارعة، ولم تهدأ أنفاسها بسهولة. كان يخيّل إليها أن الطائر يقف في مكان ما، ينتظر ظهورها مجدداً لينقض عليها. لم تعلم سر وجودها المفاجئ في ذلك المكان المليء بالوحل اللزج، وهي تحاول أن تقتطف زهرة آجرموني يافعة تمتصها طفيليات وحشائش إلى قاع البحيرة الموحلة، وقفت بطريقة يسوعية على بحر الطين المتحرك، وعندما انتزعت الزهرة وجدتها برأس أفعى مصابة بالأنفلونزا، فرمتها على الفور؛ وهي تحاول احتساب الشؤم في يومها ذلك.

أذهلها أنها كانت حافية حين رفعت قدميها بفعل سقوطها، ووجدت على أصابعها بعض الخيوط الحمراء والصفراء التي لم تعرف مصدرها، غير أنها لم تكترث بنزعها كثيراً، بل راحت تحاول النهوض، ولكنها لم تستطع. أحسّت بأنها موثوقة إلى الأرض الرطبة بأغصان نبتة متوحشة، وراحت تضرب بأقدامها، وتحاول تحريك يديها في يأس، فيما كانت الأغصان تلتف حول جسدها غارسة فيه شوكها المسموم.

وجدت نفسها فجأة بين أيدي سجانين عمالقة، ذوي أجنحة سوداء غائرة في جوانبهم، وممتدة إلى الأفق. فتحوا لها أبواب الجحيم وهم يصرخون بها: "هكذا تكون نهاية المتآمرين!" لم تُجْدِ توسلاتها المبحوحة نفعاً، ولم تمتلك قوة لتدفع عنها أجنحتهم القوية، وفجأة وجدت نفسها تهوي في قعر جحيم لا نهائي. حاولت أن تتشبث بشيء ما؛ ولكنها كانت تسقط بقوة خرافية، وثمة حيوانات مخيفة تنظر إليها وتضحك في سخرية. كانت أصواتها تأتي من البرزخ أو من فضاء لا هو في المكان ولا هو في الزمان. ثم سقطت أرضاً.

هرعت تندارسي الخادمة الأفريقية مسرعة نحو مصدر الصراخ القادم من غرفة ليلاتيا، دون أن تضيء مصباح الغرفة ذات الجدران المبطنة بأخشاب الماهوجني، وجلست قربها بطريقة أمومية: "أهو الكابوس المزعج نفسه صاحبة الجلالة؟" كانت ليلاتيا تأخذ أنفاسها بصعوبة؛ وكأنها تحاول التنفس تحت الماء. ولم تهدأ حتى وضعت رأسها على صدر مربيتها. ومضت بعينين خائفتين تجول ببصرها في أرجاء الغرفة، وكأنها تخشى حدوث أمر ما.

الغرفة هادئة إلاّ من صفير رياح الشتاء الضاربة على النافذة، وحفيف أشجار المنغروف بالخارج، وصوت صرصور الليل الموحش. لمحت في تجوالها البصري رأساً شيطانياً سرعان ما اكتشفت أنه الشمعدان الأثري الذي كان والدها قد اشتراه عائداً من رحلته في بلاد الهند؛ عندها أخذت تبكي، ولم تستطع تندارسي أن تمنع نفسها من البكاء كذلك؛ فأضاف بكاؤهما إلى الصخب الليلي مقطوعة حزينة جديدة.

"يا له من منفى! ما زلت صغيرة على تحمّل كل هذا الحزن صاحبة الجلالة." هكذا أسرّت تندارسي في نفسها، وهي تربت على ظهر سيدتها التي نامت على صدرها، بعد نوبة بكاء طويلة. ونامت هي إلى جوارها حتى الصباح.

الشتاء يوحي بالوحشة، ويحفز على التفكير والانغماس في التأمل؛ لذا فإن تندارسي كانت لا تحب فصل الشتاء، الذي يجعل سيدتها تكثر الانفراد بنفسها. كانت تخشى عليها كثيراً من تلك الأفكار الشيطانية التي تدور في رأسها، ولا تمر ثلاثة أيام دون أن تهاجمها تلك الكوابيس اللعينة. ذلك الطائر الذي برأس إنسان بشع كثيف الشعر ذي المنقار الخطافي القادم من قيامة الغيوم الحمراء الملبّدة، وهوايته في اختطاف الصدفات المخبأة في الرمل، نظراته المتوحشة، وأنفاسه التي كصوت أزيز قطار البضائع البخاري، أو هدير طائرة مروحية لم يصنعها الألمان بعد.

هي الأقدار وحدها من تحرك الناس كعرائس ليلة رأس السنة في ساحة مونوبوليس العامة، وأصناف العابرين يحملون كل ما هو جديد وقادم من بلاد ما وراء العالم كما كانوا يسمّونها: آلات التصوير الفوتوغرافية، أجهزة التحكم بالصوت، النوافير الموسيقية، معادن ذات أشكال هندسية غريبة، أدوات بلاستيكية لا يُعرف فيم تستخدم، وأخرى تعمل بالبطاريات الحجرية، قردة تقود دراجات هوائية، وأقزام يشكلون هرماً جسدياً، دببة استرالية تمشي على قوائمها الخلفية، أرانب وطيور بيضاء تخرج من القبعات، وكلاب البحر التي تعزف على الآلات الموسيقية.

"الدنيا كساحة مونوبوليس، وما نحن إلاّ أدوات عرض للتسلية عن الإله!" لم تعرف تندارسي لماذا تذكرت تلك الكلمات التي كان يهذي بها أحد السكارى في محطة للسكة الحديدية، ولكنها أحست أن الأمور لا تخرج عن ذلك الإطار الكوميدي الساخر الذي اختلقه ذلك السكير.

الدنيا لا تضيق ولا تتسع إلاّ من أجلنا فقط. لا تأخذنا الأشياء خارج حدودها؛ إنما تصنعنا اللحظة التي نشعر فيها بالأشياء، وكأننا مربوطون في كنه الأشياء بخيط رفيع، ونحن الذين نشد هذا الخيط أو نرخيه، ولكننا لا نملك أن نقطعه. هي الأشياء وحدها التي تملك تلك القدرة.

تضيق الدنيا بالبائسين والحزانى؛ لأنهم فقط يريدونها أن تكون كذلك! وتتسع للسعداء كي تسع ضحكاتهم، ولكل شيء موسيقاه الخاصة: للحزن موسيقاه، وللفرح موسيقاه. والأشياء تغني بطريقتها، قد نسمعها أو لا نسمعها؛ هذا يعود إلى من نكون (أسعداء أم أشقياء)، إذا كنا أشقياء فلن نسمع تغريد العصافير، وحفيف الأشجار، وهدير المياه في الجداول، إنما سوف نركز طاقتنا السماعية في صوت صرصور الليل، وصفير الرياح، وطقطقة الخشب في نار المدفأة، وكل الأصوات المناسبة للمزاج العكر.

ليلاتيا امرأة جميلة، كأنها آخر الجميلات أو أُولاهن. ذات بشرة صافية تماماً؛ كأنما خلقت على مهل، وشعرها طويل بلون كستنائي مذهّب، أصبحت حزينة مؤخراً. ومنذ أن ألقت بها عربة القصر الرئاسي في هذا المنفى، وهي لا تغادر عزلتها إلاّ إلى الداخل. تشعر أنها لا تأمن أحداً على نفسها إلاّ نفسها، ومربيتها تندارسي. يتملكها الخوف إلى الحد الذي يجعلها لا تنام إلاّ بتعاويذ تحفظها تندارسي. عزفت عن كل شيء إلاّ اللعب على آلة البيانو، والرسم على باب غرفتها الخشبي.

كانت دائماً تصاب بابتسامات هازلة، تتقاطع مع ملامحها الواجمة والحزينة. "ترى: فيم تفكر الآن؟" كانت تندارسي تسأل نفسها كلما رأت تلك الابتسامة الساخرة على وجهها كل مرة. لقد تركت الثرثرة منذ أن جاءت إلى هذا المكان النائي على أطراف بحر الكاريبي في شتاء عام 1975 تاركة وراءها عالماً من الفوضى والذكريات والأبهة. كل ما سمح لها بحمله: آلة البيانو الخشبية، والشمعدان الأثري وأدوات الرسم وتندارسي.

من النافذة المطلة على الفناء الخارجي، كانت تتابع حركات الجنود المسلحين، وهم يحرسون مدخل المنزل الذي تقطنه، حاملين بنادق منتهية بسونكي يبرق في سماء التاسعة صباحاً يحول دون استمتاعها بضفائر الأرض الخضراء المجدولة بحقل قمح مهمل، وأشجار الأكاسِيا والسرو والتنوب.

كانوا يدخنون الماريجوانا بشغف جم، وهم يصدرون ضحكاتهم الهستيرية، نظرت إليهم في قرف: "كلانا حبيس هاهنا، فقط أنا حبيسة في الداخل، وأنتم حبيسون في الخارج. حبيسون في البزة العسكرية، ثم حبيسون في الوهم المنسوج من خيوط دخان الخشخاش.

لابد أنكم الآن تشتمون الثورة في سركم؛ فلتدخنوا إذن؛ ربما كان هو الحل الوحيد أمامكم". راحت تفتش بنظرها بين الغيوم؛ علّها تجد غيمة حمراء، غير أن السماء كانت زرقاء تماماً، وبعض الغيوم البيضاء المتناثرة كقطع الصوف المجهزة للتنجيد. رأت إحداهن كوجه امرأة عجوز، وأخرى كطائر على وشك التحليق، وأخرى نائية بدت وكأنها وجه ضاحك متكسّر، وأخذت ترسم في خيالها روابط بين هذه الصور المتزاحمة في سماء ممتدة من اللامكان إلى اللامكان. شعرت بنسمات باردة تداعب وجهها، وخصلات شعرها المنسدلة على أكتافها.

انسدل شعرها على يد خادمة آسيوية وهي تغسله لها بزيت الماكادامِيا، رأت نفسها في المرآة الضخمة ذات البرواز المطلي بماء الذهب، وأخرى تشذب أظافر قدميها، بينما انشغلت ثالثة بترتيب ثيابها التي سوف ترتديها بعد التبرج. صوت ذكوري خشن يأتيها من الخلف: "ألم تجهز سيدة البلاد بعد؟ السادة السفراء على وشك الوصول صاحبة الجلالة." أهدته ابتسامة ملوكية، وهمست في أذن الخادمة الآسيوية؛ فأسرعت في عملها. وجهها امتلأ بالرضا عندما رأته في المرآة، متورداً، وكأنها عروس في ليلة زفافها.

ذلك الرضا الذي غمرها فطرياً لم يكن يجعلها سعيدة كفاية؛ لأنها تعلم أن بريقها المتكلّف كانت تسلبه أضواء الصحافيين كلما التفتت، أو ابتسمت، أو مدّت يدها لمصافحة أحدهم. كان يزعجها ذلك كثيراً، ولكنها لم تكن لتفعل شيئاً حياله.

أخذت تتفحص بعض الأطراف بأناملها المصقولة بالمبرد العاجي. وساعدها الخدم على النهوض وخلع ملابسها، ثم على ارتداء الفستان المعدّ لاحتفالات القصر الرئاسي بمناسبة أعياد الثورة. فستان أبيض من قطعة واحدة من الدانتيل المشغول، متكسر النهايات حتى الخاصرة، ومفرود بشكل مخروطي من الجانب السفلي. وذيل من النيون المبطن بالقطيفة مطرز في نهايته. كل شيء في المكان يوحي بالفخامة، والترف الباذخ. كان الجميع ينتظرون رؤيتها في نشرات الأخبار، مأخذوين بأناقتها التي تتحدث عنها وسائل الإعلام، وتسعى الفتيات للاقتداء بها.

مقاطع من رواية (أرض الميّت)

هشام آدم
كنتُ منتبهاً لصوت الجدة مِسكة المتشائم، ومتأثراً به، وهي تحكي لنا عن وفاة أحد أعظم الأساطير التي مرّت على قريتنا والقرى النوبية على الإطلاق. وظلت سيرة هذه الشخصية الأسطورية -التي تسببت في تسمية الأراضي التي سكنتها بعض القبائل الأحمسية السمراء- تتردد على ألسنة عجائز القرية، وشيوخها جيلاً بعد جيل؛ إلى الحد الذي جعل الرواية تخضع لعمليات تحريف شعبية واعية واسعة النطاق، فأضاف إليها البعض من مخيّلتهم الخاصة؛ بينما اعتمد البعض الآخر على ذاكرته التي أصابها العطب والصدأ بفعل تقدّم السن، ولكنني تأثرت برواية الجدة مِسكة التي روتها لنا بتفانٍ غير مسبوق على حلقات متسلسلة، فكنا ننتظر الظلام وهو قادم يتهادى على مهل فوق سفوح جبال ميمن توّو الجنوبية؛ كغريب يدخل القرية على خجل، ونجلس في نصف دائرة: أنا وأبناء عمومتي، وبعض الفتيات لنستمع إلى ما تبقى من حكايات جلال التمتام.

ومازلتُ إلى الآن قادراً على تصوّر مشهد وفاته الذي لم يشهده أحد، وخضع لتكّهنات الرواة من هيئته التي رأوه عليها عندما عثروا عليه ميتاً على سريره ممسكاً بصورة سيّدة بيضاء. والضوء الذي يمر متسللاً من خلال النافذة المتهالكة على تجاعيد وجهه الذي كجلد تمساح أمازوني، كان يُعرّى تواريخها. ذلك الضوء الذي كنهر هادر من آلاف اليرقات الضوئية، عابراً بين ثقوب النافذة الخشبية المطليّة بطلاء أزرق، ناشراً رذاذ أشعة الساعة الثامنة صباحاً على طول المجرى الضوئي المستقيم، مجنونةً كإحدى لوحات سلفادور دالي السريالية.

كل الذين رووا قصته أجمعوا على أن الحزن كان أكثر الملامح إضاءة في قسماته المُتعَبة. الهواء الصباحي البارد كان يصفع الباب الخشبي بصفائح الألمنيوم المتآكلة، كأنه جسد كركدن أفريقي معتد بنفسه. والإهمال والغبار يعمّان المكان، ويتركان أثرهما بوضوح في كل ركن.

جلال التمتام الأشهب القادم من المجهول حاملاً في قسماته ملامح نادرة، وفي لغته لكنة غير مألوفة، كان له قنٌ يُربي فيه: ثلاث دجاجات، وديكاً أعرجاً لا يُلقّح ولا يُؤذن، وكلبٌ أسود بذيل مقطوع، يُذاع عنه أشياء مُريبة، ويُشكّ في أمره.

عندما أقدم الكلب على عضّ صابرين ابنة العمدة ليلة عيد أضحى، لم يجرؤ –حتى إمام القرية– على إمساكه وحقنه بالسُّم. العمدة نفسه كان يقرأ المعوذتين، وينفث عن شماله ثلاثاً كلما رآه، ويردّد بصوت عال ليسمعه الكلب: "أعوذ بكلمات الله التامات من شرّ ما خلق!" وظنّ أن ذلك ما يبقيه في حرز منه، وآمن أنّ تلك الكلمات كانت سرّ نجاته من هجمات الكلب العدوانية.

لا أحد يعرف على وجه الدقة من اكتسب الشهرة من الآخر: الكلب الأسود أم ابنة العمدة؛ إذ لم تخل مجالس الرجال من ذكر تلك الحادثة، وأصبح الأمر فاكهة الليالي الخمرية التي اعتاد عليها الشباب في القرية. جاء الناس راجلين وراكبين من كل الأصقاع البعيدة والقريبة ليحمدوا للعمدة سلامة ابنته. وجاء حكيم القرية ليحقن الفتاة المسكينة بإحدى وعشرين حقنة في سرّتها أمام دعوات الجميع لها بالشفاء والسلامة من داء الكَلَب.

آمان أهالي القرية أن تبوّل كلب التمتام –والكلاب السوداء على العموم- على عتبات البيوت، يعني نذير شؤم موشك. فلم يسمحوا للكلب بالاقتراب من بيوتهم، أو حتى التفيؤ تحت ظلال جدرانها الجالوصية[1] المتهالكة في ساعات الظهيرة الحارقة. وربما نال حياته بقدر ما نال صاحبه من الاحترام والتوقير.

بعد وفاة الشيخ العجوز، قرر بعض الفتيان -من بينهم هارون عزيزة- مطاردة الكلب الأسود العجوز وقتله، واعتبروا ذلك واجباً دينياً مقدساً، وشرفاً سوف يستحقون عليه الثناء والمجد من أهالي القرية. هارون عزيزة وجدها فرصة مناسبة لكسب احترام الأهالي الذين نبذوه بعدما وشت به مجموعة من الأطفال، عندما اختلس النظر إلى فتاة بالغة وهي تتغوّط في الخلاء، فكان أكثرهم حرصاً وحماسة لمطاردة الكلب؛ بل وأكثرهم شراسة في الفتك به. اعتبر أنّ دماء الكلب الأسود قد يعني خلاصهُ من العار الأبدي. وبموت الكلب الأسود وصاحبه التمتام، انقلبت أحوال القرية رأساً على عقب، ولم تعد تهنأ بالراحة.

هارون عزيزة لم يشأ أن يفوّت الفرصة، فلم يكتف بضرب الكلب بفأس صدئة على مؤخرة رأسه، وإنما حمله على كتفيه، وسار به مزهواً في طرقات القرية الصخرية، كفارس إغريقي نبيل يحمل رأس وحش همجي أرّق مضاجع الأميرات. مرّ أمام بيوت القرية على مهل، رافعاً جثة كلب التمتام فوق رأسه مستقبلاً زغاريد النساء الواجلات في صلف لا تخطئه عين.

لم تستطع مسكة التحقق من شأن هارون عزيزة حول أسباب الاحترام الذي ناله من أهالي القرية ما إذا كان عائداً إلى همّته في قتل الكلب، أم بسبب نبوءة التمتام؛ إذ تذكر أنّ جلال التمتام، مرّ ذات أمسية -وهو في طريقه إلى بيته- برهط بينهم هارون عزيزة نفسه، فأشار إليه بعصاه المعقوفة وهو يقول: "ما أسعد القرية بك؛ إنك ستعيش مرتين، وتخون مرتين، وتسكن هذا البيت." وأشار إلى سرايا العمدة، وضحك الجميع.

أوصى الشيخ عبد الصبور إسماعيل دهب إمام الزاوية اليتيمة في القرية آنذاك بتعليق الكلب الأسود -بعد قتله- على سارية كانت فيما مضى جزءاً من ساقية أنشأها أبوه طيّبُ الذكر الشيخ إسماعيل دهب. قال: "يمكننا استخدام جيفته طُعماً للتماسيح، والوحوش الضارية التي تهدد أبناء القرية وأطفالها ومواشيها، أو فلتكن طعاماً للجوارح التي تحمل في حويصلاتها أرواح الأطفال الميّتين، ذلك أدعى للرحمة." ولذا أسموها "سارية الرحمة".

أصبح ذلك فيما بعد سُنّة جارية، فبينما يُدفن الموتى في الضفة الأخرى من النهر، تُعلّق الضباع والكلاب السوداء والبهائم النافقة، والحيوانات الأليفة المريضة بعد قتلها على السارية، وقيل أن ذلك هو السبب في تسمية القرية بأرض الميّت.

وقيل إنها سميّت كذلك لسبب لا يتعلّق بجلال التمتام على الإطلاق؛ إذ حكت الجدة مسكة أن أهالي القرية تفاجئوا ذات صباح بجثة شاب غريق ملقاة عند حواف النهر الصخرية، ولم يستطع أحد التعرّف عليها، وإن الشيخ عبد الصبور دهب أوصى بدفنه في مدافن القرية بعد ثلاثة أيام، إن لم يأت أحد للبحث عنه، وإن ذوي الغريق جاؤوا بعد ذلك بأيام ليكتشفوا أن ميّتهم مدفون بهذه الأرض الغريبة؛ وربما أطلقوا اسم "أرض الميّت" على القرية أول مرّة، واشتهرت به بعد ذلك.

وإذ أن المنطقة التي يمر بها النهر بمحاذاة القرية اشتهرت بحوافها الصخرية المسننة، فقد كان أهالي القرى النوبية الأخرى يأتون للبحث عن غرقاهم في أرض الميّت، آملين أن يجدوا جثثهم وقد نجت بمعجزة من أنياب تماسيح النهر وأسماكه الشرهة، متعلّقة بأنياب الصخور الملساء، ولم تخيّب القرية ظنّ أحد إلا ما ندر.

الرجال الذين جاؤوا بحثاً عن الغريق، حكوا لأهالي القرية عن ميّتهم: إنه اعتاد الجلوس على تلة رملية بيضاء قرب النهر وقت الغروب، يدخن البنقو، ويُردد الأغنيات التي لا يرغب في سماعها أحد، وأنه حكا للجميع عن الجنيّة التي خرجت إليه عارية من مياه النهر، وقبّلته، وطلبت منه أن يتزوّجها، وأنها أغرته باللحاق بها إلى النهر. وتمكن صيّادون ليليّون من إنقاذه. وشاع في القرية خبر الجنيّة اللعوب التي تتصيّد الشبان، وتغري بهم لتجعل نهايتهم على يدها: إما غرقاً في النيل، أو خلف جبال ميمن توو الجنوبية.

كان يُشاع في أرض الميّت أنّ الأطفال عندما يموتون تتخطّف الجوارح الجائعة أرواحهم في طريقها إلى السماء، فتسكن حويصلاتها لأنهم لا حساب لهم أمام الله، أو يغدون ملائكة صغيرة؛ لا يُوكَل إليهم تلك الأعمال الشاقة التي تُوكل إلى الملائكة، فقط يحوّمون في الأرجاء يهبون السلام والرحمة لذويهم ولمن هم في الأرض.

يؤمن أهالي القرية أن أرواح هؤلاء الأطفال المحمولة داخل حويصلات الطيور سببٌ في خصوبة الأرض، ونجاح مواسمهم الزراعية؛ لذا فإن الأهالي لم يمنعوا الطيور من أن تحط على أشجار مزارعهم، وبينما تقتات الطيور على ديدان الأرض، ويرقات المحاصيل الضارة، وجرذان الحقول، يوعز المزارعون نجاح مواسمهم الزراعية إلى رضا الأرواح، ودعمها الذي لا ينقطع إلا عندما يغضبون، فتزحف الغربان السوداء على المزارع، وتأتي على الأخضر واليابس وتقضي عليه، فتقيم النساء المناحات حزناً على تعاسة أرواح أطفالهن الراحلين.

قيل إنّ الشيطان يتشكّل في أجساد الكلاب السوداء، فيدخل البيوت، ويبث فيها الشرور والأحقاد، وأوعز البعض حوادث غرق المراكب النهرية إلى أنّ بعضها تتسلّل إلى النهر، وتستحم وتشرب منه؛ فأطلق شبان القرية وشيبانها حملة للقضاء عليها كانت الأشرس في تاريخ القرية كلها. ثم عمّت الحملة كل الحيوانات السوداء: قطط، عقارب، أفاعي، غِربان. وأُصيبت القرية بلوثة اللون الأسود. حدث هذا بعد خطبة الجمعة التي ألقاها الشيخ عبد الصبور دهب (إمام القرية) وحذر فيها أهالي القرية من الكلاب السوداء التي تسكنها الشياطين؛ ولذا فإنهم رأوا في قتل كلب التمتام الأسود واجباً دينياً مقدساً. كل ذلك ساعد على إقناع الأهالي بأن قريتهم تعج بالملائكة والشياطين، وأغلب الظن أن هذا هو فهرس الحياة السرّي.

قالت الجدة مِسكة فيما يُشبه العتاب المؤدّب: "إنّ العجوز التمتام دُفن دون مناحة تليق بسنوات عمره السبعين، أو بمآثره التي لا تعترف بها إلا النساء فقط. ولم يترك ورائه ما يجعل الآخرين يتذكرونه به غير كلبه المعلّق على السارية، وثلاث عشرة حفرة متفرقة في جسد القرية الحجرية، وبعض الخردوات التي يحتفظ بها في حقيبته القماشية". ولم يدّع أحد الرواة معرفته باسم جلال التمتام بالكامل، ولكنهم ذكروا أن (التمتام) لقب أُطلق عليه لكثرة تأتأته.

جاء إلى القرية قبل سنتين من وفاته، ولم يحمل معه –وقتها- غير حقيبة قماشية يجعلها على ظهره، وتميمة معدنية يضعها في يده اليسرى، وكلبٍ أسود يتبعه لاهثاً بلسان متورّد متدل ورطب. سكن أطراف القرية، وأقام خيمته المصنوعة من مادة غير مألوفة على تلة يستخدمها كَلَس كمئذنة يرفع منها آذان المغرب في المواسم الرمضانية، ورغم أنّ جلال التمتام جاء في غير مواعيد رمضان؛ إلاّ أن أهالي القرية اعتبروا ذلك مساساً بمقدساتهم، وقرروا طرده وحرق خيمته، وكادوا أن يفعلوا لولا تدخل العمدة.

وبفتوى من الشيخ عبد الصبور دهب تم منع النساء من النياحة عليه بعد موته؛ رغم أنهن الوحيدات اللواتي أحزنهن رحيله فعلاً، فلم يبكين عليه إلا سراً. وعادت للتلة قداستها؛ حيث تتنزّل الملائكة بعد غروب شمس كل يوم، دون أن يتمكن أحد من رؤيتهم. وأكدّ البعض أنهم رأوا خيالات ضوئية خضراء وبيضاء تلّف التلّة بعد وفاة التمتام بيومين، وفسّر الشيخ عبد الصبور تلك الأضواء بأنها الملائكة، وأكّد بأنه ليس بإمكان أيّ بشر رؤية الملائكة عياناً؛ إلاّ أولياء الله الصالحون الذين يخصّهم بكراماته، ويكشف عنهم حجاب الرؤية.

وظلّت سيرة الضوء الذي لم يشهده إلا أموات القرية حجّة على قداسة التلّة التي أصبحت في مقام جبل عرفة من الحجاز؛ لذا فإن عمدة القرية أمر –بإيعاز من شيخها- أن تُسوّر التلّة بسياج له باب. وتولّت عائلة كَلَس حراسة التلّة، واحتفظوا بمفتاح بابها الزنكي المتين، ومُنع الناس من التبوّل أو قضاء الحاجة عندها.

وحسب رواية الجدة مِسكة فإن رجال القرية وأطفالها تجمهروا عند باب خيمة الغريب التي كثمرة إجاص عملاقة حاملين العصي والحجارة، في انتظار أن يخرج إليهم الغريب، ولكنه خرج راسماً ابتسامة سلمية حذرة على وجهه، وهو يستقبل العمدة وضيوفه: "يمكنني أن أجيب عن أيّ سؤال تشاءون؛ إلاّ فيما يتعلّق بجهة قدومي. أنا بينكم الآن لأن العالم انتهى بي هنا، وهذه التلّة طيّة العالم الكبيرة. أحببتُ أن أموت في هذا المكان الجميل. فماذا يضيركم إن بقي بينكم رجل عجوز مثلي؟!" أخرج التمتام بعض الأدوات المعدنية من جُراب جلدي قديم معلّق على عارضة الخيمةِ، ونثرها أمام الجميع: "هذا كلّ ما أحمله." نظر الناس بدهشة إلى الخردوات التي يحملها، وكتموا ضحكاتهم، بينما قال العجوز الغريب:

"هذه آخر أسرار الفيزياء الحديثة. الإنسان ينوي أن يطوي العالم في كفّه، وهو في طريقه إلى خلق معجزاته الخاصة، البعض يتحدث عن عصور قادمة لن يحتاج فيها الإنسان إلى الحركة؛ حيث سيكون كل شيء بضغطة زر واحدة، وستكون للأسلاك المهملة شأن عظيم في تواصل البعيدين وتقريبهم من بعضهم، وسوف تعود الخيول والجمال والحمير إلى البريّة؛ فلن يكون الإنسان بحاجة إليها في تنقلاته، ربما تصبح أداة لتسلية إنسان ذلك العصر!

سوف يعرف الناس الضوء الذي يوقد بلا زيت، يوقد بالأسلاك والأزرار، وعندها لن تعودوا بحاجة إلى فوانيسكم التي ستوُدع المتاحف. هل تعرفون المتحف؟ سوف يتوقف الإنسان عن كتابة الخطابات والرسائل، سوف يكون كل ذلك تراثاً لا يتبعه إلا الفقراء والجهلاء فقط.

سوف يتمكن من رؤية الشياطين والجن بعينيه، ويختفي هو عن الأنظار! سوف يُصبح هو أسطورة يخشاها مردة الجن، ويُجنبون أبنائهم منهم. سوف يُصبح الإنسان قادراً على رؤية ما وراء الأشياء الصلبة، والدخول من خلالها. هذه ليست محض أمنيات أو خيالات.

سوف تنهار الأسرة ويتبادل الجميع الأدوار. من كان له ابنة أو ابن فليسعد برؤيته الآن وليتمتع بحسّه الأبوي؛ فربما لن يعود هنالك أبناء. سيكف الإنسان عن مغازلة القمر في أغانيه وأشعاره، ويصعد إليه في زيارة سياحية كل عام! الراكضون وراء الإبل والأغنام سيجدون ذلك مضحكاً، ولكن تلك هي الحقيقة."

كلماته المتعجرفة تلك جاءت موافقةً لبريق ماكر لمع في عينيه. رفع حاجبه الأيمن الكث حتى ظنّ الناس أنه سيقع، استغربوا كيف أنّ شعر حاجب أكثر كثافةً من الآخر. ملامحه تلك أشعرتهم بالخوف منه، إضافةً إلى طريقة كلامه المليء بالطلاسم المخيفة، والعبارات المبهمة.

مدّ التمتام يده داخل جُرابه، وأخرج قطعةً معدنيةً غريبةَ الشكل، وضعها بشكل عمودي على الأرض، وبدأ يضغط على طرفها العلوي بسبابته؛ فأخذت تتراقص بمرونة، ثم أفلتها فجأةً؛ فقفزت كجراد مذعور في حقل يحترق. تعجّب الأهالي للمعدن الطيّار، وكانت تلك هي المرّة الأولى التي يتعرفون فيها إلى النوابض المعدنية.

ثم مدّ يده وأخرج أداة أخرى، وأبدى –هذه المرة- اهتماماً بالغاً بما يفعله. تجمهر الناس حوله، وهو لا يفعل شيئاً غير الإمساك بتلك الأداة غريبة الشكل. بدت لهم كقرص زجاجي تافه لا جدوى منه، وانتفضوا مذعورين عندما بدأ اللهب يشتعل في الأوراق اليابسة تحتها. سبحلَ البعض بصوتٍ عالٍ: "سبحان الله .. سبحان الله"، ونظروا إلى بعضهم البعض وهم يضحكون. قال أحدهم: "لقد عاد عصر المعجزات!" الوحيد الذي لم يعجبه الأمر هو الشيخ عبد الصبور دهب؛ فقد نهض مفزوعاً من مكانه كالملدوغ وهو يقول: "هذا سحر، هذا فعل شيطاني، لا يجوز. حرام!" وغادر المكان وهو يكرر: "استغفر الله العظيم .. استغفر الله العظيم!"

عمدة القرية لم يكترث كثيراً لفزع الشيخ عبد الصبور، وشغله اندهاشه عن ذلك. تقدّم التمتام منه، وهو يمسك أداة أخرى غريبة الشكل، قال: "أمّا هذه فتسمى (عين الشيطان). خذ، أمسكها يا عمدة وانظر من خلالها". لبعض الوقت؛ تردد العمدة؛ وخاف أن يؤدي ذلك إلى فقدانه بصره، خاف أن يخرج منها مارد شيطاني، ويتمكن من الدخول إلى جسده عبر عينيه فتحرقهما: "ماذا تريدني أن أرى بهذا الشيء؟ أنا لا أؤمن بالسحر." ضحك التمتام، وأخذ ينظر من خلالها ناحية القرية: "سترى القرية -كلّ القرية- بين يديك، لا يحق لغيركَ أن يراها كذلك."

عندها قفز العمدة مدفوعاً بشغف السلطة والفضول. نظر إلى القرية فرأى البيوت وكأنها أمام عينيه تماماً. رأى الشيخ عبد الصبور راكباً حماره وقد تعلّقت ثمرة نبتة شوكية بعباءته، بدا قريباً لدرجة أنّه مدّ يديه لينتزع الثمرة الشوكية عن عباءة الشيخ عبد الصبور، ولكنه لم يتمكن من ذلك، أزاح الآلة عن عينيه؛ فرآه بعيداً جداً عنه فصرخ مجدداً: "سبحان الله!" وتهافت البقية على العمدة يريدون أن ينظروا من خلال الآلة العجيبة فزجرهم: "لا أحد يحق له النظر من هذه العين الشيطانية إلاّي؛ وإلا ستحتقرون." ابتسم التمتام في سخرية وقال: "حضرة العمدة، هذه الآلة تسمى (المنظار)، وهي إحدى منجزات الفيزياء الحديثة". مسح العمدة أنفه وسأل: "وما الفيزياء؟"