اختفت خلف صخرة كبيرة على شكل قبعة ساحر، تتخذها مكاناً لدفن الأصداف التي تقذفها أمواج الكاريبي، عندما صادفت طائراً ضخماً برأس رجل بشع ذي شعر كثيف، بينما غطى الريش بقية جسده. تقدم الطائر نحو الصخرة الكبيرة، وبدأ ينبش الرمل بمنقاره الذي على شكل خطّاف، واختطف الأصداف المدفونة، ثم فرد جناحيه المهولين، وارتفع كطائرة عمودية، واختفى بين غيوم حمراء ابتلعته؛ ثم تلاشت بعدها تماماً.
شعرت بخوف شديد، وضغطت على صدرها بقوة. حاولت أن توقف دقات قلبها المتسارعة، ولم تهدأ أنفاسها بسهولة. كان يخيّل إليها أن الطائر يقف في مكان ما، ينتظر ظهورها مجدداً لينقض عليها. لم تعلم سر وجودها المفاجئ في ذلك المكان المليء بالوحل اللزج، وهي تحاول أن تقتطف زهرة آجرموني يافعة تمتصها طفيليات وحشائش إلى قاع البحيرة الموحلة، وقفت بطريقة يسوعية على بحر الطين المتحرك، وعندما انتزعت الزهرة وجدتها برأس أفعى مصابة بالأنفلونزا، فرمتها على الفور؛ وهي تحاول احتساب الشؤم في يومها ذلك.
أذهلها أنها كانت حافية حين رفعت قدميها بفعل سقوطها، ووجدت على أصابعها بعض الخيوط الحمراء والصفراء التي لم تعرف مصدرها، غير أنها لم تكترث بنزعها كثيراً، بل راحت تحاول النهوض، ولكنها لم تستطع. أحسّت بأنها موثوقة إلى الأرض الرطبة بأغصان نبتة متوحشة، وراحت تضرب بأقدامها، وتحاول تحريك يديها في يأس، فيما كانت الأغصان تلتف حول جسدها غارسة فيه شوكها المسموم.
وجدت نفسها فجأة بين أيدي سجانين عمالقة، ذوي أجنحة سوداء غائرة في جوانبهم، وممتدة إلى الأفق. فتحوا لها أبواب الجحيم وهم يصرخون بها: "هكذا تكون نهاية المتآمرين!" لم تُجْدِ توسلاتها المبحوحة نفعاً، ولم تمتلك قوة لتدفع عنها أجنحتهم القوية، وفجأة وجدت نفسها تهوي في قعر جحيم لا نهائي. حاولت أن تتشبث بشيء ما؛ ولكنها كانت تسقط بقوة خرافية، وثمة حيوانات مخيفة تنظر إليها وتضحك في سخرية. كانت أصواتها تأتي من البرزخ أو من فضاء لا هو في المكان ولا هو في الزمان. ثم سقطت أرضاً.
هرعت تندارسي الخادمة الأفريقية مسرعة نحو مصدر الصراخ القادم من غرفة ليلاتيا، دون أن تضيء مصباح الغرفة ذات الجدران المبطنة بأخشاب الماهوجني، وجلست قربها بطريقة أمومية: "أهو الكابوس المزعج نفسه صاحبة الجلالة؟" كانت ليلاتيا تأخذ أنفاسها بصعوبة؛ وكأنها تحاول التنفس تحت الماء. ولم تهدأ حتى وضعت رأسها على صدر مربيتها. ومضت بعينين خائفتين تجول ببصرها في أرجاء الغرفة، وكأنها تخشى حدوث أمر ما.
الغرفة هادئة إلاّ من صفير رياح الشتاء الضاربة على النافذة، وحفيف أشجار المنغروف بالخارج، وصوت صرصور الليل الموحش. لمحت في تجوالها البصري رأساً شيطانياً سرعان ما اكتشفت أنه الشمعدان الأثري الذي كان والدها قد اشتراه عائداً من رحلته في بلاد الهند؛ عندها أخذت تبكي، ولم تستطع تندارسي أن تمنع نفسها من البكاء كذلك؛ فأضاف بكاؤهما إلى الصخب الليلي مقطوعة حزينة جديدة.
"يا له من منفى! ما زلت صغيرة على تحمّل كل هذا الحزن صاحبة الجلالة." هكذا أسرّت تندارسي في نفسها، وهي تربت على ظهر سيدتها التي نامت على صدرها، بعد نوبة بكاء طويلة. ونامت هي إلى جوارها حتى الصباح.
الشتاء يوحي بالوحشة، ويحفز على التفكير والانغماس في التأمل؛ لذا فإن تندارسي كانت لا تحب فصل الشتاء، الذي يجعل سيدتها تكثر الانفراد بنفسها. كانت تخشى عليها كثيراً من تلك الأفكار الشيطانية التي تدور في رأسها، ولا تمر ثلاثة أيام دون أن تهاجمها تلك الكوابيس اللعينة. ذلك الطائر الذي برأس إنسان بشع كثيف الشعر ذي المنقار الخطافي القادم من قيامة الغيوم الحمراء الملبّدة، وهوايته في اختطاف الصدفات المخبأة في الرمل، نظراته المتوحشة، وأنفاسه التي كصوت أزيز قطار البضائع البخاري، أو هدير طائرة مروحية لم يصنعها الألمان بعد.
هي الأقدار وحدها من تحرك الناس كعرائس ليلة رأس السنة في ساحة مونوبوليس العامة، وأصناف العابرين يحملون كل ما هو جديد وقادم من بلاد ما وراء العالم كما كانوا يسمّونها: آلات التصوير الفوتوغرافية، أجهزة التحكم بالصوت، النوافير الموسيقية، معادن ذات أشكال هندسية غريبة، أدوات بلاستيكية لا يُعرف فيم تستخدم، وأخرى تعمل بالبطاريات الحجرية، قردة تقود دراجات هوائية، وأقزام يشكلون هرماً جسدياً، دببة استرالية تمشي على قوائمها الخلفية، أرانب وطيور بيضاء تخرج من القبعات، وكلاب البحر التي تعزف على الآلات الموسيقية.
"الدنيا كساحة مونوبوليس، وما نحن إلاّ أدوات عرض للتسلية عن الإله!" لم تعرف تندارسي لماذا تذكرت تلك الكلمات التي كان يهذي بها أحد السكارى في محطة للسكة الحديدية، ولكنها أحست أن الأمور لا تخرج عن ذلك الإطار الكوميدي الساخر الذي اختلقه ذلك السكير.
الدنيا لا تضيق ولا تتسع إلاّ من أجلنا فقط. لا تأخذنا الأشياء خارج حدودها؛ إنما تصنعنا اللحظة التي نشعر فيها بالأشياء، وكأننا مربوطون في كنه الأشياء بخيط رفيع، ونحن الذين نشد هذا الخيط أو نرخيه، ولكننا لا نملك أن نقطعه. هي الأشياء وحدها التي تملك تلك القدرة.
تضيق الدنيا بالبائسين والحزانى؛ لأنهم فقط يريدونها أن تكون كذلك! وتتسع للسعداء كي تسع ضحكاتهم، ولكل شيء موسيقاه الخاصة: للحزن موسيقاه، وللفرح موسيقاه. والأشياء تغني بطريقتها، قد نسمعها أو لا نسمعها؛ هذا يعود إلى من نكون (أسعداء أم أشقياء)، إذا كنا أشقياء فلن نسمع تغريد العصافير، وحفيف الأشجار، وهدير المياه في الجداول، إنما سوف نركز طاقتنا السماعية في صوت صرصور الليل، وصفير الرياح، وطقطقة الخشب في نار المدفأة، وكل الأصوات المناسبة للمزاج العكر.
ليلاتيا امرأة جميلة، كأنها آخر الجميلات أو أُولاهن. ذات بشرة صافية تماماً؛ كأنما خلقت على مهل، وشعرها طويل بلون كستنائي مذهّب، أصبحت حزينة مؤخراً. ومنذ أن ألقت بها عربة القصر الرئاسي في هذا المنفى، وهي لا تغادر عزلتها إلاّ إلى الداخل. تشعر أنها لا تأمن أحداً على نفسها إلاّ نفسها، ومربيتها تندارسي. يتملكها الخوف إلى الحد الذي يجعلها لا تنام إلاّ بتعاويذ تحفظها تندارسي. عزفت عن كل شيء إلاّ اللعب على آلة البيانو، والرسم على باب غرفتها الخشبي.
كانت دائماً تصاب بابتسامات هازلة، تتقاطع مع ملامحها الواجمة والحزينة. "ترى: فيم تفكر الآن؟" كانت تندارسي تسأل نفسها كلما رأت تلك الابتسامة الساخرة على وجهها كل مرة. لقد تركت الثرثرة منذ أن جاءت إلى هذا المكان النائي على أطراف بحر الكاريبي في شتاء عام 1975 تاركة وراءها عالماً من الفوضى والذكريات والأبهة. كل ما سمح لها بحمله: آلة البيانو الخشبية، والشمعدان الأثري وأدوات الرسم وتندارسي.
من النافذة المطلة على الفناء الخارجي، كانت تتابع حركات الجنود المسلحين، وهم يحرسون مدخل المنزل الذي تقطنه، حاملين بنادق منتهية بسونكي يبرق في سماء التاسعة صباحاً يحول دون استمتاعها بضفائر الأرض الخضراء المجدولة بحقل قمح مهمل، وأشجار الأكاسِيا والسرو والتنوب.
كانوا يدخنون الماريجوانا بشغف جم، وهم يصدرون ضحكاتهم الهستيرية، نظرت إليهم في قرف: "كلانا حبيس هاهنا، فقط أنا حبيسة في الداخل، وأنتم حبيسون في الخارج. حبيسون في البزة العسكرية، ثم حبيسون في الوهم المنسوج من خيوط دخان الخشخاش.
لابد أنكم الآن تشتمون الثورة في سركم؛ فلتدخنوا إذن؛ ربما كان هو الحل الوحيد أمامكم". راحت تفتش بنظرها بين الغيوم؛ علّها تجد غيمة حمراء، غير أن السماء كانت زرقاء تماماً، وبعض الغيوم البيضاء المتناثرة كقطع الصوف المجهزة للتنجيد. رأت إحداهن كوجه امرأة عجوز، وأخرى كطائر على وشك التحليق، وأخرى نائية بدت وكأنها وجه ضاحك متكسّر، وأخذت ترسم في خيالها روابط بين هذه الصور المتزاحمة في سماء ممتدة من اللامكان إلى اللامكان. شعرت بنسمات باردة تداعب وجهها، وخصلات شعرها المنسدلة على أكتافها.
انسدل شعرها على يد خادمة آسيوية وهي تغسله لها بزيت الماكادامِيا، رأت نفسها في المرآة الضخمة ذات البرواز المطلي بماء الذهب، وأخرى تشذب أظافر قدميها، بينما انشغلت ثالثة بترتيب ثيابها التي سوف ترتديها بعد التبرج. صوت ذكوري خشن يأتيها من الخلف: "ألم تجهز سيدة البلاد بعد؟ السادة السفراء على وشك الوصول صاحبة الجلالة." أهدته ابتسامة ملوكية، وهمست في أذن الخادمة الآسيوية؛ فأسرعت في عملها. وجهها امتلأ بالرضا عندما رأته في المرآة، متورداً، وكأنها عروس في ليلة زفافها.
ذلك الرضا الذي غمرها فطرياً لم يكن يجعلها سعيدة كفاية؛ لأنها تعلم أن بريقها المتكلّف كانت تسلبه أضواء الصحافيين كلما التفتت، أو ابتسمت، أو مدّت يدها لمصافحة أحدهم. كان يزعجها ذلك كثيراً، ولكنها لم تكن لتفعل شيئاً حياله.
أخذت تتفحص بعض الأطراف بأناملها المصقولة بالمبرد العاجي. وساعدها الخدم على النهوض وخلع ملابسها، ثم على ارتداء الفستان المعدّ لاحتفالات القصر الرئاسي بمناسبة أعياد الثورة. فستان أبيض من قطعة واحدة من الدانتيل المشغول، متكسر النهايات حتى الخاصرة، ومفرود بشكل مخروطي من الجانب السفلي. وذيل من النيون المبطن بالقطيفة مطرز في نهايته. كل شيء في المكان يوحي بالفخامة، والترف الباذخ. كان الجميع ينتظرون رؤيتها في نشرات الأخبار، مأخذوين بأناقتها التي تتحدث عنها وسائل الإعلام، وتسعى الفتيات للاقتداء بها.